مع ارتسام مشهد النفق السوري الطويل، بدأ يتسع مربع القلق والخوف لدى جميع اللبنانيين، يوماً بعد يوم، مما يتهددهم في حاضرهم ومستقبلهم.
العدو الإسرائيلي يتربص بلبنان، ويكيد له، ولا يوفر فرصة إلا ويستغلها لإرباك الساحة اللبنانية ودس الدسائس فيها، وها هي مناوراته العسكرية المتتالية لا تحاكي إلا هدف العدوان على لبنان وإسقاطه وضرب مقاومته وكل عناصر قوته، غير أن الخطر الأكبر، يكمن في دفع هذا البلد إلى المجهول، وكلمة السر لهذا المجهول هي الفتنة العمياء.
ما يقلق اللبنانيين أن المشهد اللبناني يتحرك في الآونة الأخيرة وكأن يداً خفية تقرع جرس الفتنة فيه، وتلقي بين أبنائه صواعق تحت عناوين ومسميات مختلفة، تهدد مناعته الوطنية وتستثير الغرائز المذهبية والطائفية وتشحن العصبيات، وتفقده لحظة الأمان والاستقرار التي لا تفسير حقيقياً لها في ظل كل النيران المشتعلة في المنطقة.
ما يقلق اللبنانيين، سلسلة الوقائع التي تتالت في الآونة الأخيرة، وأظهرت لبنان في موقع المستهدف بطريقة ممنهجة لاستدراجه إلى الفتنة والاقتتال المذهبي، والشواهد لا تعد ولا تحصى، بدءًا بالاعتصامات التي اتخذت طابعا فولكلوريا، والعزف اليومي على الوتر المذهبي، وصولا إلى خطف الزوار اللبنانيين وما أحاط الأمر من قطع طرق وخطف رهائن والتباسات لم تنجل بعد، وصولا إلى ما سمي بـ«الوثائق» التي بثتها بعض الفضائيات العربية قبل أيام، والتي تصوّب على فريق لبناني معين.
والخطير في الأمر ليس في مضمون تلك «الوثائق» بقدر ما أنها أوجدت بسحر ساحر، تناغما كليا معها من قبل فريق من اللبنانيين، سارع وبشكل منظم إلى نسج الروايات وتفصيل الاتهامات وإلباس قميص الاغتيالات وكل الموبقات التي حصلت منذ سنوات إلى فريق لبناني.
المقلق أن جزءا من الشارع يصدّق ما يطرح من «سيناريوهات»، والمقلق أكثر أن لا أحد يملك أجوبة عن الكثير من الأسئلة المطروحة في أوساط الناس، ومنها:
ـ هل هناك أمر عمليات بإضرام النار في لبنان؟ من المستفيد من إحداث فتنة في لبنان؟ ما هو سر هذا التناغم من قبل بعض اللبنانيين مع «عبوة الوثائق» التي قد تكون مزورة؟ هل يستطيع الجسم اللبناني الهش أن يستوعب «عبوات» إضافية تضعه على حافة الهاوية؟
ـ بصرف النظر عن دقة أو عدم دقة مضمون ما سمّتها الفضائية العربية بـ«الوثائق»، من أوعز بنشرها، ولماذا في هذا التوقيت؟
ـ هل ألقيت هذه العبوة، من دون تقدير حجم التفاعل مع مضمونها التفجيري، والآثار التي سترخيها على الداخل اللبناني، أم أنها ألقيت لمجرد تسجيل سبق صحافي؟
ـ ما هو المراد الحقيقي من زرع الداخل اللبناني بالعبوات السياسية والمذهبية الناسفة، والى أين يراد أخذ لبنان، هل إلى فتنة تلاقي فتنة سوريا أم تلاقي تفجيرات العراق وأحداث البحرين وشرقي السعودية واليمن؟
ـ ما هو مغزى العودة إلى نبش الدفاتر العتيقة و«مذهبة» أحداث معينة مثل حادثة الكويخات ومقتل الشيخين عبد الواحد والمرعب، وإلقاء المسؤولية على ضابط من مذهب معين؟
ـ ما هو مغزى نبش الذاكرة، واستحضار جريمة اغتيال النائب جبران تويني وإلباس التهمة إلى «حزب الله»، الذي نفى علاقته بها، مجددا إدانته الاغتيال السياسي، ومعلنا انه ينتظر أن يقول القضاء كلمته في هذا المجال؟
ـ هل لربط «حزب الله» باغتيال تويني علاقة بالمحكمة الدولية وما ستفرزه في المرحلة المقبلة؟
ـ هل يشكل ذلك مقدمة للعودة إلى مربع الاتهام المباشر لسوريا بالاغتيالات ومعها «حزب الله» كأداة تنفيذية ليس في قضية اغتيال تويني فقط بل في كل الاغتيالات، بما فيها اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري؟
ـ ما هو سر تزامن إلقاء هذه «العبوة» مع ما يتردد عن «توجه سعودي جديد يشدد على أولوية التلاقي الوطني اللبناني، بما يحمي سياسة «النأي بالنفس» ويجنّب لبنان تجرع تداعيات الأزمة السورية وكأسها المرة؟ وهو التوجه الذي يجعل السعوديين الأهدأ بين «المتوترين» وصولا إلى قرار السعودية الأخير، بإعادة مقاربة الملف السوري بطريقة مختلفة، من دون المغامرة بإطاحة النظام السوري وجيشه تحديدا في غياب البدائل؟
الاتهامات والتوقيت
لقد بدا «حزب الله» في الأيام الأخيرة، كمن في فمه الكثير من الماء: اتهامات محلية وخارجية، لعل أخطرها التركيز على دوره في القتال إلى جانب النظام السوري ودوره في اغتيال الشهيد جبران تويني.
من يعرف «حزب الله» وطريقة تصرفه مع ملفات سياسية وأمنية كثيرة، خاصة في السنوات الأخيرة، ولعل أبرزها في الذاكرة القريبة، مسألة ميشال سماحة، يدرك أنه يفضل إحاطة قضايا من هذا النوع، بزنار من الصمت، تاركاً لـ«المجتهدين» أن يحللوا ويبنوا.. وصولا إلى إصدار الأحكام وحتى تنفيذها.
ومع اتساع حملة التسريبات وانضمام وسائل إعلامية تلفزيونية ومكتوبة، عربية وأجنبية، إلى «الحملة»، أدرك «حزب الله» أن فضيلة الصمت قد ترتد عليه، لذلك، قرر الاقتضاب: كل ما يُنشر مفبرك ومزور وكاذب، ونترك للقضاء أن يقول كلمته «بعدما ثبت بالملموس أن بعض من يدّعون الحرص على سلامة البلد وأهله لا يتمتعون بأدنى درجات الحس بالأهلية والمسؤولية»، متسائلا «عما إذا كان هناك مذكرة أميركية وصلت إلى هؤلاء لتوتير الأوضاع الداخلية».
وحسنا فعلت الزميلة النائبة نايلة تويني بأن طلبت من الحزب إنكار التهمة «لأن الصورة التي عمل عليها في سنوات تتهاوى في لحظات أمام سيل الوثائق والاعترافات وقتلى الحزب الذين يسقطون دفاعا لا عن وطنهم لبنان بل عن نظام سوري قتل مواطنيهم اللبنانيين».
ويبقى السؤال: لماذا هذه الحملة وفي هذا التوقيت بالذات؟
هو مسار بدأ في العام ألفين مع تحرير الجنوب اللبناني وتوج في نهاية العام 2011 بانسحاب آخر جندي أميركي من العراق بعد حملة غزو دامت تسع سنوات وأدت إلى تدمير العراق وإدخال المنطقة في أتون الفتنة المذهبية السنية الشيعية.
خرج الأميركيون من العراق، وبدت بعض العواصم العربية في حالة اكتئاب، وزاد من كآبتها مشهد العراقيين يتحدّون آلة الموت والتفجير ويتوجهون إلى صناديق الاقتراع ويختارون ممثليهم في أول انتخابات حرة منذ عقود طويلة.
تزامن الانسحاب الأميركي مع حراك تاريخي غير مسبوق في العالم العربي، لا يمكن لمراقب محايد إنكار دور الشعوب فيه، من تونس إلى مصر وليبيا واليمن وصولا إلى سوريا.
وكلما كانت الشعوب تقترب من الديموقراطية، كانت فلسطين اسما وعلما وقضية تقترب من حريتها، ويزداد خوف الإسرائيليين لا بل رعبهم، قبل أن ينحرف المسار ويصدر القرار بضرب فكرة «الثورات» من أصلها، ويرتسم مشهد مشابه من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، يطرح الأسئلة ثم الأسئلة.. ولا أجوبة حتى الآن.
لم تعد إسرائيل بحاجة إلى ترسانتها والى «القبضة الأميركية». ها هي أوضاع الأنظمة الوليدة تطمئنها، الواحد تلو الآخر، وها هي تراقب سوريا تدمّر نفسها بأيدي نظامها ومعارضيه من شعبها بكل من يدعمهم بالسلاح والمال من خارجها، وهل كان يمكن للحلم الإسرائيلي بتدمير سوريا أن يتحقق بأفضل من السيناريو الحالي، ومن دون طلقة نار إسرائيلية واحدة؟
استباق لتغيير محتمل؟
ها هو «حزب الله» محاصر بالاتهامات من العام 2005 حتى يومنا هذا، وبدل أن يتحول انتصاره في العام 2006 على إسرائيل، إلى مناسبة للافتخار بالمقاومة التي رفعت بأبطالها وشهدائها وكل من شاركوها تلك المعركة الوطنية، رأس لبنان عاليا، ومعه رأس كل داعميها من أقصى الشمال إلى أقصى الجبل والبقاع مرورا بالعاصمة التي فتحت ذراعيها وشكلت خير نصير لهؤلاء الأبطال، صارت البطولة تهمة وصارت المقاومة طائفة وصار المقاومون ملاحقين بالفتنة والتحريض.
قيل عن حكومة نجيب ميقاتي إنها حكومة «القمصان السود». هل كان من أسقط سعد الحريري اليوم، على علم بأن سوريا في اليوم التالي، ستدخل نفق أزمة وطنية غير مسبوقة في تاريخها، ومعها سينتفي التأثير السوري في لبنان لسنوات وعقود طويلة؟
هل يوم قرر الإيرانيون مخالفة بشار الأسد، مدعما بالرغبة السعودية، بتسمية إياد علاوي رئيسا لحكومة العراق، كانوا يدركون أن حليفهم السوري سيدخل في «الكوما» قريبا ويصبح نوري المالكي رئيسا لحكومة «القمصان السود» في العراق؟
لو صح أنهم يدركون لوجب على الآخرين أن يحترموا عقلهم الاستراتيجي، غير أن الأصح أن أحدا لم يكن يتوقع الزلزال السوري الكبير.
ها هي أزمة سوريا توشك أن تطوي بعد شهور قليلة، عامها الثاني، وهي ستدخل عامها الثالث، وكل من زار عواصم العالم، عاد بخلاصة واحدة مفادها أن هذه الأزمة مفتوحة على مصراعيها ولن تنتهي في المدى المنظور، حتى أن مرجعين لبنانيين كبيرين، أحدهما سياسي، والآخر غير مدني، عادا من رحلتين خارجيتين بخلاصة واحدة مفادها أن النظام «لن يسقط وحتى لو تمكنوا من قتل بشار الأسد... لن يسقط النظام السوري».. ولذلك دخلت الأزمة السورية مرحلة جديدة، وها هي كل العواصم الدولية تعيد النظر في حساباتها.
من الواضح أن هناك منافذ سياسية تفتح في المنطقة، بدليل التغيير الحاصل في الخطاب التركي، برغم كل أزيز التراشق المدفعي الحدودي اليومي، وها هي روسيا ومعها الصين، تمضيان في خيارهما السوري، وصولا إلى صرف نحو مليارات الدولارات في سوريا، فهل هو استثمار خاسر حتما أم تصح نظرية هاتين الدولتين القائلة «بأننا عندما نحمي سوريا من السقوط، إنما نحمي الأردن، لأنه إذا سقط الحاجز الأردني، فسنجد النيران مشتعلة في اليوم التالي في السعودية وكل دول الخليج» على حد تعبير مسؤول صيني كبير.
إنه الوقت اللبناني الضائع، و«الحكمة كل الحكمة أن يتصرف اللبنانيون بنضج ووعي، لأن الخطر ليس من الخارج، في هذه المرحلة، بل من بعض اللبنانيين الذين باتوا مستعدين للتفريط بمصلحة بلدهم وشعبهم لمصلحة حسابات وارتباطات خارجية» على حد تعبير مسؤول لبناني كبير لا ينتمي لا إلى «8 آذار» ولا الى «14 آذار».
0 Responses to عودة إلى مخطط تفجير لبنان بنار الحرب في سوريا