جان عزيز
بات نوعاً من التقليد الرئاسي في لبنان أن يعمد رئيس الجمهورية إلى القصف السياسي من خارج البلاد. وقد يكون السبب مجرد انطلاق السجية بعيداً عن اعتبارات القصر والقاصرين والمقصّرين. أو الإحساس باللامسؤولية، نتيجة وضعية المغفل (Incognito) التي ترافق المسافر، والذي يزداد منسوبه كلما بعدت مسافة السفر. أو قد يكون السبب ضرورات التجاوب مع أمزجة الخارج وأجنداته ومقتضيات تقديم أوراق الاعتماد لديه. ولا غرابة في ذلك.
فرؤساؤنا كلهم، باستثناء معجزة العام 1970، من صنع الخارج واختياره وإخراجه، ولو كان الاختيار بلا مشروعية كما دوماً، ولو جاء الإخراج بلا شرعية أو حتى خرقاً للدستور، كما كان استثناء الرئيس الحالي للجمهورية.
هكذا استمر ميشال سليمان في التقليد الرئاسي المشار إليه. وكرّسه في كلامه اللاتينو ــــ أميركي، خصوصاً وعده بتحقيق معجزتين: أولاً فصل سلاح حزب الله عن سلاح المقاومة، ومن ثم نزع سلاح الحزب المذكور.
يمكن القول ان الرئيس يذهب أبعد في شخصيته الجديدة، أو في وجهه الجديد من شخصيته الثابتة، والتي كانت في وجوه أخرى فرضتها ظروف سابقة. مع أن البعض يقول إن المسألة هي نتيجة حسابات دقيقة وموازين قوى حاسمة. ففي 17 تموز الماضي ذهب ميشال سليمان إلى تركيا. هناك يقال إنه فهم أو أُفهم أن الزمن تغير. بعدها أطلق موقفه الأول من نوعه في عيد الجيش في الأول من آب: إمرة المقاومة تعود للجيش. قبل أن يستنبط هيكلية المجلس الجديد للدفاع: الجيش زائد المقاومة في مجلس بإمرة الرئيس. بعد تركيا قيل إن اتصالات أميركية مباشرة حصلت على خط بعبدا. كونيللي حملت رسائل خطية، فيها إشادات وكلام كبير. بعدها جاء اعتقال ميشال سماحة في 9 آب، فانتفض ميشال سليمان، وكاد يهدّد بشار الأسد، بعد أعوام على نزع صورتهما المشتركة من مكتبه ومنزله وعقله وقلبه.
السوريون لم يبادروا إلى أي ردّ. حتى لقاء طهران بين سليمان والمعلم اعتبروه من باب المصادفة واللياقات لا أكثر. أما في بيروت فاكتفى سفير دمشق بزيارة القصر تكريماً لضيف كبير هو قداسة البابا، مع التزام عبارة واحدة قيلت للمضيف، أُعدت كلماتها وعُدّت حروفها: «مشكور فخامة الرئيس».
من جهة حزب الله، اقتضت المسألة بحثاً أكثر. قيل إن اجتماعات متلاحقة حصلت لدراسة صيغة الرد ومضمونه. انتهت إلى قرار بتوجيه الرسالة الأكثر صراحة ومباشرة. مع تأكيد الحزب يقينه بأن رئيس الجمهورية لا يمكن أن يتحول حلقة من سلسلة الحصار المضروب حول حزب الله، من بلغاريا وقبرص إلى المصارف والمغتربات، وصولاً إلى أعزاز والقصير. لكن رغم ذلك «اليقين» بدت الرسالة واجبة، ولو من باب الاحتياط الواجب.
لكن المشكلة لا تنتهي عند دمشق والضاحية. بل تتعداهما أيضاً إلى الساحة المسيحية. هنا يبدو أن سليمان يتصرف وكأن كل المواقع المارونية مأزومة، أو في مأزق، أو حتى في حالة إفلاس. ففي كلامه وحركته المسجلين في الاونة الأخيرة، يحاول رئيس الجمهورية القول للبطريرك الماروني مثلاً: خللي عنك سيدنا. أنا وأنت متفاهمان ومتفقان ويربطنا ود قديم. لكن يبدو انك ارتكبت دعسة ناقصة في كلامك الفرنسي عن سوريا وتطوراتها. دعني أكمل عنك. خصوصاً أن موقعك واعتباراته لا يسمحان لك بالمناورة ولا يعطيانك إمكان القطف أو الحصاد. على عكس قدراتي ورغباتي.
ثم يلتفت ميشال سليمان إلى ميشال عون قائلاً: أنت أيضاً جنرال يمكنك ان ترتاح. لقد ذهبت بعيداً في رهاناتك، كما تفعل دائماً، وعلى عكسي أنا دوماً. الآن وضعك لا تحسد عليه. بين حليفك الشيعي المحاصر وحليفك السوري المترنح. أما أنا فخارج تلك اللعبة. يمكنني أن أضمن المصلحة المسيحية، حيث صارت حدودك مقيدة وخياراتك محصورة.
أما سمير جعجع فقد يذكّره سليمان بزيارتيه إليه في معراب قبل انتخابه رئيساً: مذ ذاك اتفقنا على أن نخوض معاً سباق التتابع. حيث ينتهي مضمارك تسلمني العصا، والعكس صحيح. اليوم إنه مضماري أنا. مصالحتك مع المسيحيين لم تنجز. ووضعي أفضل بلا شك. ثم إن تنامي الأصوليات على حفافي حلفائك اللبنانيين والإقليميين يجعل مقبوليتي أكبر بكثير منك، وجاهزيتي الدولية أوسع بكثير من محطاتك المحصورة بين الرياض وقطر وابو ظبي. فضلاً عن عجزك عن اجتياز المتحف جنوباً وحدشيت شمالاً. دعني أكمل عنك، ولا تخف، أعرف عدوك كما تعرفه...
يبقى جان قهوجي على الساحة. لا يخاطبه العماد السلف بالمباشر. بل بالرسائل المستورة. مرسوم التمديد للمجلس العسكري جُمِّد. في أيلول 2013 أنا أقرر كل شيء، شغوراً أو إشغالاً. وعمر سليمان مات، كما زمنه. فلا جدوى من الزيارات الخارجية، لتكرار اللعبة التي لعبتها أنا مع إميل لحود...
كل شيء يبدو كاملاً. لا ينقصه غير إقفال تلك الجبّالة قرب كفرذبيان. يعرفها سليمان جيداً، كما كثيرون.
0 Responses to رسائل ميشال سليمان السرية